1‏/6‏/2009

حقيقة أغرب من الخيال مصر تسـتورد الرمال‏!‏

المصدر / جريدة الاهرام
42415 ‏السنة 126-العدد 2003 يناير 22 ‏19 من ذى القعدة 1423 هـ الأربعاء
تحقيق‏:‏ محمـد البــرغوثي

مصر تمتلك اجود انواع الرمال فى العالم
منذ قرون عديدة بدأ الوعي العلمي في العالم كله بأهمية الرمال البيضاء في الصحاري والرمال السوداء علي شواطئ البحار‏,‏ ومع التقدم العلمي اكتشفت الدول المتقدمة أن هذه الرمال تنطوي علي مواد وركائز خطيرة تتجاوز صناعة زجاج المائدة العادي‏,‏ إلي عشرات الصناعات الحديثة‏,‏ بدءا من زجاج عدسات النظارات الطبية‏,‏ والكريستال مرورا بالدوائر الالكترونية المتكاملة ـ السيلكون ـ وليس انتهاء بالمواد الجديدة التي تستخدم في صناعة سبائك الصواريخ والطائرات وسفن الفضاء‏,‏ بالإضافة إلي احتواء الرمال علي عناصر مشعة تدخل في الصناعات النووية‏.‏

والذي يحدث في مصر الآن‏,‏ برغم الوعي العلمي المتنامي بهذه الكنوز‏,‏ أننا نملك مليارات من أطنان الرمال البيضاء في صحارينا الشاسعة‏,‏ ومثلها من الرمال السوداء علي ساحل البحر المتوسط‏,‏ ولكننا ـ في الغالب ـ مازلنا نتعامل مع هذه الثروة المعدنية بوصفها فقط محاجر رمل‏,‏ تقتطعه الجرافات وترفعه الأوناش إلي مقاطير ليباع في السوق المحلية للاستخدام في أغراض تقليدية مثل البناء وصناعة الزجاج العادي‏,‏ ويصدر الباقي ـ خصوصا الأنواع فائقة الجودة ـ كرمل خام إلي دول شمال البحر المتوسط‏,‏ بأسعار متدنية لاتزيد علي‏43‏ جنيها للطن‏,‏ ثم تقوم هذه الدول المتقدمة بغربلته وتصنيفه وتركيز خاماته‏,‏ وتعيد تصديره إلي مصر بأسعار باهظة‏,‏ تتراوح بين‏80‏ و‏100‏ دولار للطن للأنواع المستخدمة في صناعات تقليدية‏,‏ وبين‏800‏ و‏1200‏ دولار للطن للأنواع المستخدمة في الصناعات المتقدمة‏.‏

ولا يقف الأمر عند حد استيراد مصر للرمال المصرية المعالجة في الخارج‏!,‏ ولكنه يتخطاها بالطبع إلي عشرات المواد المستخلصة منه‏,‏ والمنتجات التي يدخل الرمل في صناعتها‏,‏ والتي تصل قيمتها سنويا إلي مئات الملايين من الدولارات‏!‏
ويرصد تقرير حديث‏(‏ يونيو‏2002)‏ أعدته شعبة الصناعة والتعدين بالمجالس القومية المتخصصة‏,‏ ان صناعة الزجاج دخلت طورها الحديث في مصر عام‏1932‏ بإنشاء مصانع ياسين‏,‏ التي تحولت بعد التأميم إلي شركة النصر للزجاج والبللور‏,‏ وقد بلغ عدد الشركات المنتجة لجميع أنواع الزجاج نحو‏20‏ شركة كبيرة‏,‏ بالإضافة إلي الكثير من الورش الصغيرة المملوكة لأفراد‏,‏ ويقدر إجمالي الطاقة الانتاجية للمصانع الرئيسية بنحو‏420‏ ألف طن سنويا‏,‏ ولكنها لا تنتج غير‏350‏ ألف طن‏,‏ أي ما يعادل‏85%‏ من الطاقة الانتاجية‏,‏ وبينما نجحت هذه المصانع في تصدير نحو‏13‏ ألف طن عام‏2001,‏ بلغت قيمتها نحو‏24‏ مليون دولار‏,‏ فإن واردات مصر من المنتجات الزجاجية في العام نفسه بلغت‏70‏ ألف طن‏,‏ قيمتها نحو‏55‏ مليون دولار وهو الأمر الذي يعني أننا نستورد أكثر من خمسة أضعاف ما نصدره من زجاج المائدة العادي‏,‏ وان أدوات المائدة المستوردة تقل كثيرا في السعر عن المنتج المحلي‏!‏

والسؤال‏..‏ لماذا وصلنا إلي هذه الحالة‏,‏ في زمن وعت فيه دول حديثة العهد بالتقدم‏,‏ باستحالة تحقيق التنمية المنشودة بدون تعظيم الصادرات وخفض الواردات؟
د. احمد عاطف دردير
الدكتور عاطف دردير أستاذ التعدين‏,‏ والرئيس السابق لهيئة المساحة الجيولوجية يبدأ إجابته بالإشارة إلي أن تركيا مثلا تصدر لمصر كميات ضخمة من أكواب الشرب المصنوعة من الرمال التي تستوردها أساسا من مصر‏!‏ في الوقت الذي تعمل فيه بعض مصانعنا الرئيسية بأقل من نصف طاقتها الانتاجية‏,‏ وتعاني المصانع الصغيرة والورش من ركود انتاجها الذي تقل جودته كثيرا عن المستورد‏,‏ بسبب غياب العمليات الصناعية الوسيطة مثل الغربلة والتنقية وتركيز الخامات ورفع جودتها إلي المواصفات القياسية العالمية‏.‏
ويضيف الدكتور دردير أننا نتعامل مع الرمال المصرية ـ وهي من أجود أنواع الرمال في العالم كله ـ بطريقة بدائية جدا‏,‏ بمعني أن ما نجده في الطبيعة نبيعه كماهو‏,‏ دون إدراك لقيمة هذه الثروة الضخمة من الرمال النقية التي تحتاج إلي معالجات نصف صناعية للارتقاء بها من مجرد رمل خام‏,‏ إلي مواد وركائز عالية القيمة تعطينا عائدات تصديرية ضخمة‏,‏ وتستوعب جانبا مهما من الأيدي العاملة المعطلة‏,‏ وتساعدنا علي صناعة منتجات عالية الجودة قادرة علي منافسة المستورد‏,‏ وصالحة للتصدير إلي كل دول العالم‏.‏

دراسة شاملة
ولكن ما إمكانية وجود المعالجات نصف الصناعية للرمال في بلادنا؟

ليس هناك مكان في مصر أكثر اختصاصا بإجابة هذا السؤال‏,‏ من مركز بحوث وتطوير الفلزات الذي يرأسه الدكتور محمد بهاء الدين زغلول أستاذ الفلزات‏,‏ ومستشار هيئة التعاون الدولي اليابانية‏,‏ الذي آثر أن يقدم إجابته مشفوعة بتطبيقات نصف صناعية سبقتها دراسات علمية خاصة بتقويم وتركيز معظم الخامات المعدنية في مصر‏,‏ ومن بينها الرمال البيضاء التي توجد منها في صحارينا مليارات الأطنان‏,‏ تتراوح بين رمال عادية وأخري لايوجد لها نظير في العالم‏.‏
وفي مكتب رئيس المركز استعرض الدكتور ناجي علي عبدالخالق‏,‏ وكيل شعبة تقييم وتركيز وتجميع الخامات المعدنية‏,‏ النتائج التي حققتها الشعبة‏,‏ حيث أثبتت عمليات المسح والتقويم وتركيز الخامات أن مصر تمتلك ثروة طائلة من الرمال البيضاء‏,‏ أرقاها وأنظفها رمال الزعفرانة التي تنخفض بها نسب شوائب أكاسيد الحديد والألمونيوم‏,‏ وتتهافت أكثر من‏20‏ شركة مصرية خاصة علي اقتطاع الرمل الخام من الزعفرانة وتبيع جزءا منه للمصانع المصرية لاستخدامه في صناعة زجاج المائدة العادي‏,‏ ثم تصدر معظمه إلي الخارج دون أية معالجة بأسعار متدنية‏,‏ لاستخدامه هناك بعد معالجته في صناعات راقية مثل شاشات الكمبيوتر والتليفزيون وعدسات النظارات الطبية والعدسات المستخدمة في التكنولوجيا العالية‏,‏ إضافة لانتاج السيلكون اللازم لصناعة الدوائر الالكترونية الدقيقة‏.‏
د. ناجي عبدالخالق
والمؤسف ـ كما يضيف الدكتور ناجي عبدالخالق ـ أن عقلية البيع من المحجر‏,‏ التي تحكم القائمين علي هذه الثروة المعدنية النادرة‏,‏ فاتها أن تنتبه إلي أن الرمال هي في الأساس ثروة غير متجددة‏,‏ بمعني أنها تتراجع يوما بعد آخر وتمضي بوتيرة سريعة نحو النفاد‏,‏ بسبب التعامل الجائر والعشوائي معها‏.‏
ويشير إلي أن أبسط قواعد الإدارة العلمية السليمة لهذه الثروة غير المتجددة‏,‏ يبدأ بتصنيفها وتركيزها ورفع جودتها‏,‏ لتحسين نوعية المنتجات المحلية القائمة عليها أولا‏,‏ ولتعظيم قيمتها التصديرية ثانيا‏,‏ والاستغناء التام عن الخامات المستوردة ثالثا‏.‏

ويؤكد أن مركز الفلزات كان له دور كبير في رفع جودة كل خامات مصر من الرمال البيضاء الموجودة في سيناء والبحر الأحمر ووادي النيل وصولا إلي رمال المعادي وقام المركز باختبار هذه الخامات علي نطاق معملي ونصف صناعي‏,‏ ثم اختبرها في بعض مصانع الزجاج وأعطت نتائج صناعية مذهلة‏.‏
والمدهش أن مركز الفلزات في إطار مشروعه لتقويم وتركيز الرمال البيضاء‏,‏ اكتشف ـ كما يقول الدكتور محمد عبدالمجيد يوسف رئيس شعبة التقييم والتركيز ـ أن الرمال التي نستوردها لاستخدامها في ترشيح مياه الشرب بالمحطات الكبيرة‏,‏ ليست أكثر من رمال عادية متوافرة في أماكن كثيرة في مصر‏,‏ ولكن الشركات الأجنبية التي نستورد منها فلاتر تنقية المياه‏,‏ دأبت علي إيهامنا بأن الرمال الأجنبية المستخدمة في الترشيح لها مواصفات قياسية خاصة لاتتوافر في بلادنا حتي نظل نستورد‏.‏

كما اكتشف المركز أن الرملة القياسية التي تستوردها كل شركات الأسمنت في مصر لاستخدامها في اختبار يعرف باسم البرزمات‏,‏ يساعد علي قياس قوة تحمل الأسمنت‏,‏ هي ذاتها الرمال المستخدمة في البناء في مصر‏,‏ والتي لايزيد سعر الطن منها علي‏10‏ جنيهات‏,‏ وتستوردها شركات الأسمنت بسعر‏12‏ ألف جنيه للطن‏!‏
واللافت أن مركز بحوث وتطوير الفلزات لم يكتف بهذا الجهد العلمي التطبيقي‏,‏ الذي يعد الشرط الحاكم في تطوير الصناعات المصرية‏,‏ ولكنه تجاوزها إلي دور آخر شديد الأهمية ـ كما يقول الدكتور بهاء زغلول ـ هو إعداد دراسات فنية واقتصادية لتقديمها إلي أي شركة أو مستثمر‏,‏ وهي دراسات مبنية علي المواصفات الفنية الناتجة عن التجارب نصف الصناعية التي انجزها المركز‏,‏ وتشمل هذه الدراسات كل مدخلات الجدوي الاقتصادية للمشروعات‏,‏ للاعتماد عليها في حساب تكلفة تصنيع الطن وتحديد فترة استرداد رأس المال المدفوع والعائد علي الاستثمار‏.‏

ويشير الدكتور بهاء إلي أن هذه الدراسات لم تغفل أيضا إمكانية التحقق الفعلي لقيام هذه الصناعة الوسيطة‏,‏ وإمكانية توافر المادة الخام والركائز الناتجة عنها في الصناعات النهائية‏,‏ وملاءمة هذه المواد للتكنولوجيات المتاحة في مصر‏.‏
كما يساعد المركز في دراسة الجوانب البيئية السلبية وكيفية علاجها‏,‏ والاعتماد علي المنتجات المصرية اللازمة لعمليات التركيز مثل الكيماويات‏,‏ بحيث تكون مطابقة للمواصفات العالمية‏,.‏ ومتوافرة في مصر علي الدوام وبأسعار منافسة للأجنبي‏,‏ وهذا الدور الذي يقوم به المركز يختلف تماما عما تقوم به بيوت الخبرة الأجنبية‏,‏ التي تعطي أحيانا مؤشرات اقتصادية غير حقيقية‏,‏ وتحرص علي اقتراح مواد كيماوية تتوافر فقط في بلدانها وبأسعار غالية‏,‏ لربط الصناعات القائمة علي الرمال بالمنتجات الأجنبية دائما‏.‏

تشريع جديد
د. عزيزة احمد يوسف
والحال كذلك‏,‏ ماهي معوقات إنشاء وتعميم وحدات معالجة الرمل الخام في بلادنا قبل تصديره أو قبل استخدامه كما هو في الصناعات الوطنية التي تعاني انخفاض جودة منتجاتها بالقياس بالمنتجات الأجنبية؟

الدكتورة عزيزة يوسف أستاذة الفلزات الحاصلة علي جائزة الدولة التقديرة في العلوم التكنولوجية‏,‏ وعضو مجلس الشوري‏,‏ والمشرفة علي المشروع القومي لتركيز الخامات المعدنية‏,‏ تؤكد أن التشريعات التي تحكم العمل في المناجم والمحاجر‏,‏ هي أهم مشكلات تنمية الثروات المعدنية في مصر‏,‏ وتقول‏:‏ نحن نعمل حتي الآن في إطار قانون صدر عام‏1956,‏ والذي حدث آنذاك أن التشريع ترك الثروة المعدنية لمن ليس لهم أدني علاقة بها‏,‏ وخلال العقود الماضية أهدروا هذه الثروة وأعاقوها‏,‏ بإصرارهم علي إدارتها‏,‏ بمنطق المقاولات‏,‏ وقد طالبنا كثيرا بتعديل التشريعات لتعظيم الاستفادة من هذه الثروات‏,‏ وإدخالها فيما يسمي بالتنمية المتواصلة التي تحفظ حق الأجيال المقبلة في الثروة‏,‏ بدلا من تركها نهبا للعائد غير العلمي الذي يعطي مكاسب سريعة لحفنة من المقاولين‏,‏ ولكنه علي المدي البعيد يبيع ثروة وطنية‏,‏ غير متجددة بسعر بخس ويضع الوطن كله في سياق عشوائي يؤدي إلي مزيد من التخريب والتخلف‏.‏
وتشير الدكتورة عزيزة إلي ضرورة الإسراع باخراج الثروات المعدنية ـ ومن بينها الرمال ـ من اختصاص المحليات‏.‏
وتؤكد أن التفكير في إنشاء شركة قابضة للثروة المعدنية تكون تابعة لهيئة المساحة الجيولوجية‏,‏ ليس أكثر من إعادة انتاج لكل الأسباب التي أدت إلي إهدار هذه الثروة‏,‏ وأن هذه الشركة ستولد ميتة‏,‏ لأن فاعلية أي هيئة مشروطة بمدي اختصاصها بالهدف الذي قامت من أجله‏,‏ والثروة المعدنية كمورد اقتصادي‏,‏ لايمكن تفعيلها وتعظيمها بمعزل عن البحث العلمي وتقويم وتركيز الخامات والتجريب نصف الصناعي‏,‏ ثم التصنيع الكامل‏,‏ وهذا لايمكن أن يتحقق دون إدارة واعية تتعامل مع هذه الثروة في إطار التنمية المتواصلة‏,‏ وتلك أمور تتناقض تماما مع ما نعرفة الآن عن شحن الرمال الخام بأسعار هزيلة في مراكب لا تلبث أن تعود بها بعد معالجتها وتركيزها وتصنيفها‏,‏ لتدفع فيها مصانعنا ملايين الدولارات‏!‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق